بغداد مضمّخة برائحة البارود الذي خلّفته العبوات الناسفة والسيارات المفخخة والمسدسات الكاتمة. الحيرةُ ترتسم على ملامح قوّات الشرطة والجيش المنتشرة في نقاطِ تفتيشٍ تمتدُّ من شارعٍ إلى آخر: من أين وكيف تمرُّ هذه السيارات والعبوات؟ السياسيون ورجالات الحكم منقسمون بين من يلقي بالاتهام على تنظيم القاعدة وفلول البعث، وهو اتهام أصبح غير صالح للاستهلاك الإعلامي لنفاد صلاحيته، وآخرون يتقاذفون الاتهامات في ما بينهم. كيف يستتبّ الأمن في بلد نائب رئيس جمهوريته متهم بالإرهاب وكذلك حفنة من وزرائه ومن أعضاء برلمانه؟ في ظلِّ انعدام الثقة بالحكومات، وانعدام الأمن وغياب مبدأ سيادة القانون، تزدهر المؤسسة العشائرية التي تمتلك من «السُنن» ما يعادل القوانين الحديثة ويحلّ بديلاً عنها، وابرزها «الفصل العشائري» مُحْكم الاصول والضبط، وهو عبارة عن الاتفاق على التعويض الذي يستحقه المعتدى عليه، وقد يكون مالا وحلالاً (الديَّة) وقد يطال أحيانا منح امرأة ولاَّدة تزوج من أحد ابناء عشيرة المقتول! تنفذ السُنَن عشرات المرات في اليوم الواحد بين العشائر العراقية. ويعطل تنازل وليّ الدم عن حقه القوانين الجنائية النافذة، بموافقة أو تواطؤ أجهزة الدولة. و«السُّنَن» العشائرية مثلها مثل القوانين، لا يمكن تطبيقها من دون قوّة تفرض تنفيذها. ولا قوّة أهم من قوّة السلاح الذي وصلت سهولة الحصول عليه في العراق الى مثل سهولة الحصول على علبة سجائر.
«الدكَّة» على سبيل المثال إجراء عشائري تحذيري للمتهم، حيث تُطلِق عشرات الأسلحة الرشاشة مئات الإطلاقات أمام بابه من أجل ترويعه وإجباره على تطبيق «السّنن» ودفع ما يترتَّب عليه. هذه الظاهرة التي تتكرّر يومياً في المدن العراقية، تجري أمام أسماع وأبصار القوّات الأمنية ونقاط التفتيش، لكن هؤلاء لا يحركون ساكناً لحماية «المتهم» أو لإخضاعه الى المساءلة بطرق أخرى، وهذا الحياد يحصل وفقاً للتعليمات العليا القاضية بعدم التدخل في القضايا العشائرية. هذه التعليمات العُليا وخوف أفراد الأجهزة الأمنية من الخوض في هذه «القضايا» التي قد يقحمهم تطبيق الواجب في معمعتها، تركت ثغرة مهمّة لتسلّل عصابات متخصّصة بالاغتيال، مهمّتها تصفية العلماء والأطباء والإعلاميين والأكاديميين. إنها محاولات تجفيـف منابع التطوّر في العراق كي لا يستردَّ عافيته. وثمة من يدفع بسخاء لهذه العصابات مقابل تنفيذ مهمّة التصفيات.
يعدُّ السلاح في العراق جزءا من ثقافة جمعيّة مترسّخة، إذ قلّ أن تجد بيتاً من دون سلاح، والرجال يفاخرون بنوع السلاح الذي يمتلكون أو يحملون على جنباتهم. الحكّام العراقيون انتبهوا منذ وقت مبكِّر لهذه الثقافة، فبدأوا بإهداء المسدسات المرخّصة لشيوخ العشائر والوجهاء. هكذا فعل عبد الكريم قاسم، ومن بعده الأخَوان عبد السلام وعبد الرحمن عارف. وهكذا أيضاً فعل صدّام حسين الذي «صنَّع» شيوخاً جددا وفق المقاسات التي يريدها كي يأمَن جانب المؤسسة العشائرية، هؤلاء هم ما يطلق عليهم الناس «شيوخ التسعينيات» أو «شيوخ الحكومة»، وهي تسمية مستمرَّة حتّى الآن. أمّا رئيس الوزراء العراقي الحالي نوري المالكي، فلم يخرج عن هذه الدائرة، وأخذ قبيل أي انتخابات يجزل عطاياه من المسدسات على أبناء العشائر من أجل ضمان أصواتهم.
قبل احتلال العراق، كانت سوق الأسلحة الفردية في العراق مزدهرة، لكنها سريّة. ومصادر الأسلحة معروفة: العاصمة الأردنية، وما يرشح من هدايا القيادة وما يسرَّب من مشاجب الجيش والشرطة. أما بعد الاحتلال، فقد تعدّدت المصادر وازدادت كميات الأسلحة بشكل مرعب. وفور احتلال القوّات الأميركية للعراق وسقوط نظام صدّام حسين، انتشرت أسواق السلاح، أسواق لا تثير إلا غرابة القادم من خارج أرض الرافدين. في منطقة بغداد الجديدة مثلاً، تم افتتاح سوق «الحواسم». السلاح في هذا السوق وأسواق عديدة أخرى مشابهة، يباع الى جانب الأجهزة الكهربائية. وللبرهان على جودة السلاح، يقوم البائع بإطلاق عدّة عيارات نارية أمام الملأ دون خوف أو تردد، بالإضافة إلى تقديمه النصائح للمشتري حول كيفية استخدامه. اندثرت هذه الأسواق بعد أن قام جيش الاحتلال الأميركي بسلسلة من الغارات عليها، لكن السلاح لم ينحسر، إذ يقول تقرير «دليل الأسلحة الخفيفة في العالم» الذي أصدره «معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية» في جنيف هذا العام، أن «العراق صار في مقدمة البلدان التي تعاني من كارثة انتشار الأسلحة، أو التداول الفوضوي للسلاح». ويؤكد التقرير أن هناك أكثر من سبعة ملايين قطعة موزعة في مختلف مدن العراق، ما يعني أن هناك ثلاثين قطعة سلاح لكل مئة نسمة، شيوخاً واطفالاً، نساء ورجالاً! ويشير التقرير إلى أن «سقوط النظام السابق وحلّ الجيش العراقي سمحا بواحدة من أهمّ وأسرع عمليات الانتشار الفوضوي للأسلحة في العالم». وأبدى التقرير تحذيره من ترسانة الأسلحة العراقية لجهة تأثيرها على استقرار العراق ومنطقة الشرق الأوسط.
وفي حين تؤكد القوّات الأميركية في إحصائية أصدرتها قبيل انسحابها من العراق أن الأسلحة غير المرخصة في العراق يزيد وزنها على 650 ألف طن، معظمها بنادق ومسدسات سرقت من مشاجب الجيش العراقي، فإن تقرير معهد الدراسات الاستراتيجية ذاك يقول إن «ثلاثة ملايين ومئتي ألف قطعة سلاح أدخلت مع الميليشيات الحزبية والأحزاب التي كانت تقدِّم الدعم والاسناد إلى قوّات الغزو»، في إشارة إلى أجندات دولٍ إقليمية تطابقت أهدافها مع أهداف الاحتلال الأميركي للعراق، لاسيما في ما يتعلَّق بإسقاط النظام، ودرّبت هذه الدول آلاف المقاتلين من المعارضة العراقية لتحقيق هذا الهدف، وهم بدأوا تحركاتهم بالفعل أثناء الغزو أو بعد إسقاط النظام في 9 نيسان/ابريل 2003 مباشرة.
الحكومة العراقية، وبعد أن باءت كل محاولاتها لحصر الأسلحة الفردية بالفشل، لجأت إلى «تعويم» هذه الأسلحة عبر قرار «يشرعن» اقتناءها. إذ يقضي القرار الجديد الذي صدر في 6 أيار/مايو من العام الجاري بحقّ «العائلة العراقية في امتلاك أو اقتناء سلاح فردي واحد، شريطة أن يتمَّ تسجيله في أقرب مركز شرطة لسكن العائلة الحائزة على السلاح».
ومثل معظم قرارات الحكومة العراقية، فإن المجتمع العراقي انقسم في موقفه من القرار بين مؤيد ومعارض له: أبدت منظمات المجتمع تحفّظها واستغرابها، وقالت أنه «خطوة غير صحيّة تؤسس لعسكرة المجتمع، وتزيد من معدلات الجريمة». وتعزّز لجنة الأمن والدفاع في مجلس النوّاب هذا الموقف، إذ يقول أحد اعضائها إن «حقَّ امتلاك سلاح لكل عائلة عراقية مرادف لـ«عسكرة المجتمع»، وأن القرار يعطي انطباعاً لدى المواطنين بأن الأوضاع الأمنية في البلاد غير مستقرّة، وأن الحكومة غير قادرة على فرض الأمن والاستقرار رغم الاعداد الكبيرة لقوّات الجيش والشرطة». إلا أن المتحدِّث باسم عمليات بغداد يقول أن «الغاية من القرار هي حصر الحكومة للأسلحة بشكل قانوني، وأن القرار لا يسمح ولا يخوِّل أي شخص حمل السلاح خارج منزله، وهو ممنوع ومحصور بالقوّات الأمنية تحديداً».
والجردة السريعة لفوضى السلاح تقدّم الآثار الكبيرة الذي خلّفتها في الشوارع والمدن. إذ حسب وزارة الصحة في تقريرها الصادر عام 2010، فإن عدد المصابين بطلق ناري في تلك السنة فقط هو 10339 انسانا، ولم تورد الوزارة تقريراً في عام 2011، إلا أن المعطيات تبيّن زيادة هذا الرقم، لاسيما وأن عمليات استهداف القادة الأمنيين بالمسدسات الكاتمة للصوت قد ازدادت. وقد سجّلت وزارة الداخلية في شهر آب/اغسطس 2012 وحده 22 حالة قتل بمسدس كاتم للصوت، ناهيك عن تصاعد المدّ العشائري في السنوات الأخيرة، والذي يخلِّف حفلات جماعية صاخبة للموت المعلن، خاصّة في الأرياف.
وفي الإطار العام لانفلات السلاح، وفوضى اقتنائه، وتماهيه مع الإرهاب ليصبحا وجهان لعملة واحدة ما داما يستهدفان الإنسان، وإعلان وزارة حقوق الإنسان في العراق نهاية عام 2011 عن سقوط 70 ألف قتيل وأكثر من 250 ألف جريح منذ عام 2003 إلى تاريخه، جراء العمليات «الإرهابية»، من دون أن يشير تقرير الوزارة إلى أن هذا الرقم يتضمن المذابح الطائفية التي قادتها المليشيات المرتبطة بالأحزاب الدينية الحاكمة، أو الضحايا الذين سقطوا برصاص جيش الاحتلال الأميركي... كل ذلك يعطي دليلاً واضحاً على أن عمليات القتل المجاني للمواطنين المدنيين العراقيين هو النسغ الذي يمد فوضى السلاح بالحياة. لكن هنا أيضاً «تتجمَّل» الحكومة العراقية إذ تتناقض أرقام وزارة حقوق الإنسان مع ما أكدته منظمة «تعداد أرقام الجثث العراقية» الإنسانية البريطانية (Iraq body count) ، من مقتل نحو 162 ألف شخص في العراق، 80 في المئة منهم مدنيون، منذ احتلاله عام 2003 وحتى خروج القوّات الأميركية منه في العام الفائت. وبانتظار الخبر اليقين، سنبقى في دوّامة الأرقام المتناقضة حول عدد ضحايا فوضى السلاح، من الموت المباح والموت الصامت، والتي قد تفجِّر مفاجأة من العيار الثقيل، لأن التسريبات التي تصل وسائل الإعلام من فترة لأخرى تشي بأرقام مرعبة بالفعل.
[نشر هذا المقال بالإتفاق مع ملحق "السفير العربي“ الصادر عن صحيفة ”السفير“ اللبنانية.]